فصل: تفسير الآيات رقم (108- 124)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 124‏]‏

‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏108‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏109‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏111‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏112‏)‏ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ‏(‏115‏)‏ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ‏(‏116‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏117‏)‏ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏118‏)‏ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ‏(‏119‏)‏ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏120‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏121‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏122‏)‏ قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏123‏)‏ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ‏}‏ من جيبه أو من تحت إبطه‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين‏}‏ أي بيضاء بياضاً خارجاً عن العادة تجتمع عليها النظارة، أو بيضاء للنظار لا أنها كانت بيضاء في جبلتها‏.‏ روي‏:‏ أنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة، فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثم نزعها فإذا هي بيضاء نورانية غلب شعاعها شعاع الشمس‏.‏

‏{‏قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ‏}‏ قيل قاله هو وأشراف قومه على سبيل التشاور في أمره، فحكى عنه في سورة الشعراء وعنهم ها هنا‏.‏

‏{‏يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ تشيرون في أن نفعل‏.‏

‏{‏قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين‏}‏‏.‏

‏{‏يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ‏}‏ كأنه اتفقت عليه آراؤهم فأشاروا به على فرعون، والإِرجاء التأخير أي أخر أمره، وأصله أرجئه كما قرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب من أرجأت، وكذلك «أرجئوه» على قراءة ابن كثير على الأصل في الضمير، أو ‏{‏أَرْجِهْ‏}‏ من أرجيت كما قرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي، وأما قراءته في رواية قالون ‏{‏أَرْجِهْ‏}‏ بحذف الياء فللاكتفاء بالكسرة عنها، وأما قراءة حمزة وعاصم وحفص ‏{‏أَرْجِهْ‏}‏ بسكون الهاء فلتشبيه المنفصل بالمتصل وجعل جِه كابل في إسكان وسطه وأما قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان «أرجئه» بالهمزة وكسر الهاء فلا يرتضيه النحاة فإن الهاء لا تكسر إلا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة، ووجهه أن الهمزة لما كانت تقلب ياء أجريت مجراها‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «بكل سحار» فيه وفي «يونس» ويؤيده اتفاقهم عليه في «الشعراء»‏.‏

‏{‏وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ‏}‏ بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم‏.‏ ‏{‏قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين‏}‏ استأنف به كأنه جواب سائل قال‏:‏ ما قَالُوا إذ جاؤوا‏؟‏ وقرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم ‏{‏إِنَّ لَنَا لأَجْرًا‏}‏ على الإِخبار وإيجاب الأجر كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم‏.‏

‏{‏قَالَ نَعَمْ‏}‏ إن لكم لأجراً‏.‏ ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين‏}‏ عطف على ما سد مسده ‏{‏نِعْمَ‏}‏ وزيادة على الجواب لتحريضهم‏.‏

‏{‏قَالُواْ يَا موسى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين‏}‏ خيروا موسى مراعاة للأدب أو إظهاراً للجلادة، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبهوا عليها بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ وتعريف الخبر وتوسيط الفصل أو تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل فلذلك‏:‏

‏{‏قَالَ بَلْ أَلْقُوا‏}‏ كرماً وتسامحاً، أو ازدراء بهم ووثوقاً على شأنه‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس‏}‏ بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه‏.‏ ‏{‏واسترهبوهم‏}‏ وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم طلبوا رهبتهم‏.‏ ‏{‏وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ في فنه‏.‏ روي أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً كأنها حيات ملأت الوادي، وركب بعضها بعضاً‏.‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ‏}‏ فألقاها فصارت حية‏.‏

‏{‏فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ أي ما يزورونه من الإِفك، وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه، ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول‏.‏ روي‏:‏ أنها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم، ثم أخذها موسى فصارت عصاً كما كانت فقال السحرة‏:‏ لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏تَلْقَفْ‏}‏ ها هنا وفي «طه» و«الشعراء»‏.‏

‏{‏فَوَقَعَ الحق‏}‏ فثبت لظهور أمره‏.‏ ‏{‏وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ من السحر والمعارضة‏.‏

‏{‏فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صاغرين‏}‏ أي صاروا أذلاء مبهوتين، أو رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين، والضمير لفرعون وقومه‏.‏

‏{‏وَأُلْقِيَ السحرة ساجدين‏}‏ جعلهم ملقين على وجوههم تنبيهاً على أن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك، أو أن الله ألهمهم ذلك وحملهم عليه حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه، أو مبالغة في سرعة خرورهم وشدته‏.‏

‏{‏قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين‏}‏‏.‏

‏{‏رَبّ موسى وهارون‏}‏ أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون‏.‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ‏}‏ بالله أو بموسى، والاستفهام فيه للإِنكار‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب وهشام بتحقيق الهمزتين على الأصل‏.‏ وقرأ حفص ‏{‏آمنتم به‏}‏ على الإِخبار، وقرأ قنبل ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ‏}‏، و«آمنتم» يبدل في حال الوصل من همزة الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير ألفين في طه على الخبر بهمزة وألف وقرأ في الشعراء على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير ألفين وقرأ الباقون بتحقيق الهمزة الأولى وتليين الثانية‏.‏ ‏{‏قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ‏}‏ أي إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى‏.‏ ‏{‏فِى المدينة‏}‏ في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد‏.‏ ‏{‏لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا‏}‏ يعنى القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ عاقبة ما فعلتم، وهو تهديد مجمل تفصيله‏:‏

‏{‏لأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ‏}‏ من كل شق طرفاً‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لأُصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم‏.‏ قيل إنه أول من سن ذلك فشرعه الله للقطاع تعظمياً لجرمهم ولذلك سماه محاربة لله ورسوله، ولكن على التعاقب لفرط رحمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ‏}‏ بالموت لا محالة فلا نبالي بوعيدك، أو إنا منقلبون إلى ربنا وثوابه إن فعلت بنا ذلك، كأنهم استطابوه شغفاً على لقاء الله، أو مصيرنا ومصيرك إلى ربنا فيحكم بيننا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا تَنقِمُ مِنَّا‏}‏ وما تنكر منا‏.‏ ‏{‏إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا‏}‏ وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلباً لمرضاتك، ثم فزعوا إلى الله سبحانه وتعالى فقالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا‏}‏ أفض علينا صبراً يغمرنا كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون‏.‏ ‏{‏وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ‏}‏ ثابتين على الإِسلام‏.‏ قيل إنه فعل بهم ما أوعدهم به‏.‏ وقيل إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض‏}‏ بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك‏.‏ ‏{‏وَيَذَرَكَ‏}‏ عطف على يفسدوا، أو جواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة‏:‏

أَلَمْ أَكُ جَارَكُم وَيَكُونُ بَيْني *** وَبَيْنَكُمْ المَوَدَّةُ وَالإِخَاءُ

على معنى أيكون منك ترك موسى ويكون منه تركه إياك‏.‏ وقرئ بالرفع على أنه عطف على أتذر أو استئناف أو حال‏.‏ وقرئ بالسكون كأنه قيل‏:‏ يفسدوا ويذرك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن‏}‏ ‏{‏وَءالِهَتَكَ‏}‏ معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب‏.‏ وقيل صنع لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه ولذلك قال‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى‏}‏ وقرئ «إلا هتك» أي عبادتك‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ فرعون ‏{‏سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ‏}‏ كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع ‏"‏ سنقتل ‏"‏ بالتخفيف‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون‏}‏ غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا‏}‏ لما سمعوا قول فرعون وتضجروا منه تسكيناً لهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ تسلية لهم وتقرير للأمر بالاستعانة بالله والتثبت في الأمر‏.‏ ‏{‏والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ وعد لهم بالنصرة وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له‏.‏ وقرئ و‏{‏العاقبة‏}‏ بالنصب عطف على اسم إن واللام في ‏{‏الأرض‏}‏ تحتمل العهد والجنس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي بنو إسرائيل‏.‏ ‏{‏أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا‏}‏ بالرسالة بقتل الأبناء ‏{‏وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏}‏ بإعادته‏.‏ ‏{‏قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض‏}‏ تصريحاً لما كنى عنه أولاً لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك، ولعله أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم‏.‏ وقد روي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام‏.‏ ‏{‏فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ فيرى ما تعملون من شكر وكفران وطاعة وعصيان فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين‏}‏ بالجدوب لقلة الأمطار والمياه، والسنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويؤرخ به، ثم اشتق منها فقيل أسنت القوم إذا قحطوا‏.‏ ‏{‏وَنَقْصٍ مّن الثمرات‏}‏ بكثرة العاهات‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم فيتعظوا، أو ترق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى الله ويرغبوا فيما عنده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة‏}‏ من الخصب والسعة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لَنَا هذه‏}‏ لأجلنا ونحن مستحقوها‏.‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ جدب وبلاء‏.‏ ‏{‏يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ‏}‏ يتشاءموا بهم ويقولوا‏:‏ ما أصابتنا إلا بشؤمهم، وهذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة، فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات، وهم لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتواً وانهماكاً في الغي، وإنما عرف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها، وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات ونكر السيئة، وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد لها إلا بالتبع‏.‏ ‏{‏أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله‏}‏ أي سبب خيرهم وشرهم عنده وهو حكمته ومشيئته، أو سبب شؤمهم عند الله وهو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم‏.‏ وقرئ «إنما طيرهم» وهو اسم الجمع وقيل هو جمع‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن ما يصيبهم من الله تعالى أو من شؤم أعمالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ مَهْمَا‏}‏ أصلها ما الشرطية ضمت إليها ما المزيدة للتأكيد، ثم قلبت ألفها هاء استثقالاً للتكرير‏.‏ وقيل مركبة من مه الذي يصوت به الكاف وما الجزائية ومحلها الرفع على الابتداء أو النصب بفعل يفسره‏.‏ ‏{‏تَأْتِنَا بِهِ‏}‏ أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به‏.‏ ‏{‏مّنْ ءايَةٍ‏}‏ بيان لمهما، وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي لتسحر بها أعيننا وتشبه علينا، والضمير في به وبها لمهما ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ وأنثه بعده باعتبار المعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان‏}‏ ماء طاف بهم وغشي أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل‏.‏ وقيل الجدري‏.‏ وقيل الموتان‏.‏ وقيل الطاعون‏.‏ ‏{‏والجراد والقمل‏}‏ قيل هو كبار القردان، وقيل أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها‏.‏ ‏{‏والضفادع والدم‏}‏ روي‏:‏ أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يقدر أحد أن يخرج من بيته، ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم، وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم فلم يدخل فيها قطرة، وركد على أراضيهم فمنعهم من الحرث والتصرف فيها، ودام ذلك عليهم أسبوعاً فقالوا لموسى‏:‏ ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا الله فكشف عنهم ونبت لهم من الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله ولم يؤمنوا، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زروعهم وثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب ففزعوا إليه ثانياً فدعا وخرج إلى الصحراء، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها فلم يؤمنوا، فسلط الله عليهم القمل فأكل ما أبقاه الجراد وكان يقع في أطعمتهم ويدخل بين أثوابهم وجلودهم فيمصها، ففزعوا إليه فرفع عنهم فقالوا‏:‏ قد تحققنا الآن أنك ساحر، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم وتثب إلى قدورهم وهي تغلي، وأفواههم عند التكلم ففزعوا إليه وتضرعوا، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ثم نقضوا العهود، ثم أرسل عليهم الدم فصارت مياههم دماً حتى كان يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على إناء فيكون ما يلي القبطي دماً وما يلي الإسرائيلي ماء، ويمص الماء من فم الإِسرائيلي فيصير دماً في فيه‏.‏ وقيل سلط الله عليهم الرعاف‏.‏ ‏{‏ءايات‏}‏ نصب على الحال‏.‏ ‏{‏مّفَصَّلاَتٍ‏}‏ مبينات لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته عليهم، أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل اثنتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة أسبوعاً، وقيل إن موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل‏.‏ ‏{‏فاستكبروا‏}‏ عن الإِيمان‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز‏}‏ يعني العذاب المفصل، أو الطاعون الذي أرسله الله عليهم بعد ذلك‏.‏ ‏{‏قَالُواْ يَا موسىدع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ‏}‏ بعهده عندك وهو النبوة، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك، وهو صلة لادع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلاً إليه بما عهد عنك، أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل اسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم مجاب بقوله‏:‏ ‏{‏لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إسراءيل‏}‏ أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن ولنرسلن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بالغوه‏}‏ إلى حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون فيه أو مهلكون، وهو وقت الغرق أو الموت‏.‏ وقيل إلى أجل عينوه لإِيمانهم‏.‏ ‏{‏إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ‏}‏ جواب لما أي فلما كشفنا عنهم فاجؤوا النكث من غير تأمل وتوقف فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ‏}‏ فأردنا الانتقام منهم‏.‏ ‏{‏فأغرقناهم فِي اليم‏}‏ أي البحر الذي لا يدرك قعره‏.‏ وقيل لجته‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏ أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها‏.‏ وقيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله‏:‏ ‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 140‏]‏

‏{‏وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ‏(‏137‏)‏ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏138‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏139‏)‏ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ‏}‏ بالاستبعاد وذبح الأبناء من مستضعفيهم‏.‏ ‏{‏مشارق الأرض ومغاربها‏}‏ يعني أرض الشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا في نواحيها‏.‏ ‏{‏التى بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ بالخصب وسعة العيش‏.‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى على بَنِى إِسْرءيلَ‏}‏ ومضت عليهم واتصلت بالانجاز عدته إياهم بالنصرة والتمكين وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ‏}‏ وقرئ «كلمات ربك» لتعدد المواعيد ‏{‏بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ بسبب صبرهم على الشدائد‏.‏ ‏{‏وَدَمَّرْنَا‏}‏ وخربنا‏.‏ ‏{‏مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ‏}‏ من القصور والعمارات‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ‏}‏ من الجنات أو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي «النحل» ‏{‏يَعْرِشُونَ‏}‏ بالضم‏.‏ وهذا آخر قصة فرعون وقومه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر‏}‏ وَمَا بعده ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن مَنَّ الله عليهم بالنعم الجسام، وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأى منهم، وإيقاظاً للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم‏.‏ روي‏:‏ أن موسى عليه الصلاة والسلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكراً‏.‏ ‏{‏فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ‏}‏ فمروا عليهم‏.‏ ‏{‏يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ‏}‏ يقيمون على عبادتها، قيل كانت تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل، والقوم كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم‏.‏ وقيل من لخم، وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏يعكفون‏}‏ بالكسر‏.‏ ‏{‏قَالُواْ يَا موسى اجعل لَّنَا إلها‏}‏ مثالاً نعبده‏.‏ ‏{‏كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ‏}‏ يعبدونها، وما كافة للكاف‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا من الآيات الكبرى عن العقل‏.‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلآء‏}‏ إشارة إلى القوم‏.‏ ‏{‏مُتَبَّرٌ‏}‏ مكسر مدمر‏.‏ ‏{‏مَّا هُمْ فِيهِ‏}‏ يعني أن الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضاً ‏{‏وباطل‏}‏ مضمحل‏.‏ ‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى، وإنما بالغ في هذا الكلام بإيقاع ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ اسم ‏{‏إن‏}‏ والإِخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان، وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبراً لأن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة، وأن الإِحباط الكلي لازب لما مضى عنهم تنفيراً وتحذيراً عما طلبوا‏.‏

‏{‏قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها‏}‏ أطلب لكم معبوداً‏.‏ ‏{‏وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين‏}‏ والحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على سوء معاملتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من أمثالهم لما لم يستحقوه تفضلاً بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏141‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أنجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَونَ‏}‏ واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت‏.‏ وقرأ ابن عامر «أنجاكم»‏.‏ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب‏}‏ استئناف لبيان ما أنجاهم منه، أو حال من المخاطبين، أو من آل فرعون أو منهما‏.‏ ‏{‏يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏ بدل منه مبين‏.‏ ‏{‏وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏ وفي الإِنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏142‏)‏‏}‏

‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً‏}‏ ذا القعدة، وقرأ أبو عمرو ويعقوب «ووعدنا»‏.‏ ‏{‏وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏ من ذي الحجة‏.‏ ‏{‏فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ بالغاً أربعين‏.‏ روي‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره الله بصوم ثلاثين، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشراً‏.‏ وقيل أمره بأن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها‏.‏ ‏{‏وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هارون اخلفنى فِى قَوْمِى‏}‏ كن خليفتي فيهم‏.‏ ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحاً‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين‏}‏ ولا تتبع من سلك الإِفساد ولا تطع من دعاك إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا‏}‏ لوقتنا الذي وقتناه، واللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا‏.‏ ‏{‏وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ من غير وسيط كما يكلم الملائكة، وفيما روي‏:‏ أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين‏.‏ ‏{‏قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك، أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك‏.‏ وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصاً ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏ دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إليَّ، تنبيهاً على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا‏:‏ ‏{‏أَرِنَا الله جَهْرَةً‏}‏ خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا‏:‏ ‏{‏اجعل لَّنَا إلها‏}‏ ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين‏}‏ والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإِخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبداً وأن لا يراه غيره أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية‏.‏ ‏{‏قَالَ لَن تَرَانِى ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى‏}‏ استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضاً دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن، والجبل قيل هو جبل زبير‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ‏}‏ ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره‏.‏ وقيل أعطى له حياة ورؤية حتى رآه‏.‏ ‏{‏جَعَلَهُ دَكّا‏}‏ مدكوكاً مفتتاً والدك والدق أخوان كالشك والشق، وقرأ حمزة والكسائي «دكاء» أي أرضاً مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها‏.‏ وقرئ ‏{‏دَكّاً‏}‏ أي قطعاً جمع دكاء‏.‏ ‏{‏وَخَرَّ موسى صَعِقًا‏}‏ مغشياً عليه من هول ما رأى‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ‏}‏ تعظيماً لما رأى‏.‏ ‏{‏سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ من الجراءة والإِقدام على السؤال من غير إذن‏.‏ ‏{‏وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين‏}‏ مر تفسيره‏.‏ وقيل معناه أنا أول من آمن بأنك لا ترى في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يَا موسى إِنّى اصطفيتك‏}‏ اخترتك‏.‏ ‏{‏عَلَى الناس‏}‏ أي الموجودين في زمانك، وهارون وإن كان نبياً كان مأموراً باتباعه ولم يكن كليماً ولا صاحب شرع‏.‏ ‏{‏برسالاتي‏}‏ يعني أسفار التوراة وقرأ ابن كثير ونافع «برسالتي»‏.‏ ‏{‏وبكلامي‏}‏ وبتكليمي إياك‏.‏ ‏{‏فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ‏}‏ أعطيتك من الرسالة‏.‏ ‏{‏وَكُنْ مّنَ الشاكرين‏}‏ على النعمة فيه‏.‏ روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وإعطاء التوراة كان يوم النحر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏145- 149‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏145‏)‏ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏146‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏147‏)‏ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏148‏)‏ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الألواح مِن كُلّ شَئ‏}‏ مما يحتاجون إليه من أمر الدين‏.‏ ‏{‏مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَئ‏}‏ بدل من الجار والمجرور، أي وكتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام‏.‏ واختلف في أن الألواح كانت عشرة أو سبعة، وكانت من زمرد أو زبرجد، أو ياقوت أحمر أو صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها بيده وسقفها بأصابعه وكان فيها التوراة أو غيرها‏.‏ ‏{‏فَخُذْهَا‏}‏ على إضمار القول عطفاً على كتبنا أو بدل من قوله‏:‏ ‏{‏فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ‏}‏ والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو للرسالات‏.‏ ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏ بجد وعزيمة‏.‏ ‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏ أي بأحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار، والاقتصاص على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أو بواجباتها فإن الواجب أحسن من غيره، ويجوز أن يراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقاً لا بالإضافة، وهو المأمور به كقولهم الصيف أحر من الشتاء‏.‏ ‏{‏سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين‏}‏ دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها، أو منازل عاد وثمود وأضرابهم لتعتبروا فلا تفسقوا، أو دارهم في الآخرة وهي جهنم‏.‏ وقرئ سأوريكم بمعنى سأبين لكم من أوريت الزند وسأورثكم، ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَا القوم‏}‏ ‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي‏}‏ المنصوبة في الآفاق والأنفس‏.‏ ‏{‏الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض‏}‏ بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها‏.‏ وقيل سأصرفهم عن ابطالها وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه بإعلائها أو بإهلاكهم‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ صلة يتكبرون أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل، أو حال من فاعله‏.‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوا كُلَّ آيَةٍ‏}‏ منزلَة أو معجزة‏.‏ ‏{‏لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا‏}‏ لعنادهم واختلال عقولهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد وهو يؤيد الوجه الأول‏.‏ ‏{‏وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً‏}‏ لاستيلاء الشيطنة عليهم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏"‏ الرَّشَد ‏"‏ بفتحتين وقرئ «الرشاد» وثلاثتها لغات كالسقم والسقم والسقام، ‏{‏وَإِنْ يَرَوا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏ أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم للآيات، ويجوز أن ينصب ذلك على المصدر أي سأصرف ذلك الصرف بسببهما‏.‏

‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الأخرة‏}‏ أي ولقائهم الدار الآخرة، أو ما وعد الله في الدار الآخرة‏.‏ ‏{‏حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ لا ينتفعون بها‏.‏ ‏{‏هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ إلا جزاء أعمالهم‏.‏

‏{‏واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد ذهابه للميقات‏.‏ ‏{‏مِنْ حُلِيّهِمْ‏}‏ التي استعاروا من القبط حين هموا بالخروج من مصر، وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم‏.‏ وهو جمع حلي كثدي وثدي‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالكسر بالاتباع كدلي ويعقوب على الإِفراد‏.‏ ‏{‏عِجْلاً جَسَداً‏}‏ بدنا ذا لحم ودم، أو جسداً من الذهب خالياً من الروح ونصبه على البدل‏.‏

‏{‏لَّهُ خُوَارٌ‏}‏ صوت البقر‏.‏ روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل فصار حياً‏.‏ وقيل صاغه بنوع من الحيل فتدخل الريح جوفه وتصوت، وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأن المراد اتخاذهم إياه إلهاً‏.‏ وقرئ «جؤار» أي صياح‏.‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏ تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر، والمعنى ألم يروا حين اتخذوه إلهاً أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر‏.‏ ‏{‏اتخذوه‏}‏ تكرير للذم أي اتخذوه إلهاً‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ ظالمين‏}‏ واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم‏.‏

‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ‏}‏ كناية عن اشتداد ندمهم فإن النادم المتحسر يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها‏.‏ وقرئ ‏{‏سُقِطَ‏}‏ على بناء الفعل للفاعل بمعنى وقع العض فيها‏.‏ وقيل معناه سقط الندم في أنفسهم‏.‏ ‏{‏وَرَأَوُاْ‏}‏ وعلموا‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ‏}‏ باتخاذ العجل‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا‏}‏ بإنزال التوراة‏.‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَنَا‏}‏ بالتجاوز عن الخطيئة‏.‏ ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ وقرأهما حمزة والكسائي بالتاء و‏{‏رَبَّنَا‏}‏ على النداء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفًا‏}‏ شديد الغضب وقيل حزيناً‏.‏ ‏{‏قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى‏}‏ فعلتم بعدي حيث عبدتم العجل، والخطاب للعبدة أو أقمتم مقامي فلم تكفوا العبدة والخطاب لهارون والمؤمنين معه‏!‏ وما نكرة موصوفة تفسر المستكن في بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي، أو من بعد ما رأيتم مني من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه‏.‏ ‏{‏أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ‏}‏ أتركتموه غير تام، كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته، أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم‏.‏ ‏{‏وَأَلْقَى الألواح‏}‏ طرحها من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين‏.‏ روي‏:‏ أن التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام‏.‏ ‏{‏وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ‏}‏ بشعر رأسه‏.‏ ‏{‏يَجُرُّهُ إِلَيْهِ‏}‏ توهماً بأنه قصر في كفهم، وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولاً ليناً ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏قَالَ ابن أُمَّ‏}‏ ذكر الأم ليرققه عليه وكانا من أب وأم‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي «طه» «يا ابن أم» بالكسر وأصله يا ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفاً كالمنادى المضاف إلى الياء، والباقون بالفتح زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيهاً بخمسة عشر‏.‏ ‏{‏إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى‏}‏ إزاحة لتوهم التقصير في حقه، والمعنى بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي‏.‏ ‏{‏فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأعداء‏}‏ فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين‏}‏ معدوداً في عدادهم بالمؤاخذة أو نسبة التقصير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبّ اغفر لِى‏}‏ بما صنعت بأخي‏.‏ ‏{‏وَلأَخِى‏}‏ إن فرط في كفهم ضمه إلى نفسه في الاستغفار ترضية له ودفعاً للشماتة عنه‏.‏ ‏{‏وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ‏}‏ بمزيد الإِنعام علينا‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين‏}‏ فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ‏}‏ وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم‏.‏ ‏{‏وَذِلَّةٌ فِى الحياة الدنيا‏}‏ وهي خروجهم من ديارهم‏.‏ وقيل الجزية‏.‏ ‏{‏وكذلك نَجْزِى المفترين‏}‏ على الله ولا فرية أعظم من فريتهم وهي قولهم هذا إلهكم وإله موسى، ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏والذين عَمِلُواْ السيئات‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا‏}‏ من بعد السيئات‏.‏ ‏{‏وَءامَنُواْ‏}‏ واشتغلوا بالإِيمان وما هو مقتضاه من الأعمال الصالحة‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا‏}‏ من بعد التوبة‏.‏ ‏{‏لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ وإن عظم الذنب كجريمة عبدة العجل وكثر كجرائم بني إسرائيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ‏}‏ سكن وقد قرئ به‏.‏ ‏{‏عَن مُّوسَى الغضب‏}‏ باعتذار هارون، أو بتوبتهم وفي هذا الكلام مبالغة وبلاغة من حيث إنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالأمر به والمغري عليه حتى عبر عن سكونه بالسكوت‏.‏ وقرئ ‏{‏سَكَتَ‏}‏ و«أسكت» على أن المسكت هو الله أو أخوه أو الذين تابوا‏.‏ ‏{‏أَخَذَ الألواح‏}‏ التي ألقاها‏.‏ ‏{‏وَفِى نُسْخَتِهَا‏}‏ وفيما نسخ فيها أي كتب، فعلة بمعنى مفعول كالخطبة وقيل فيما نسخ منها من الألواح المنكسرة‏.‏ ‏{‏هُدًى‏}‏ بيان للحق‏.‏ ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ إرشاد إلى الصلاح والخير‏.‏ ‏{‏لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير، أو حذف المفعول واللام للتعليل والتقدير يرهبون معاصي الله لربهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 160‏]‏

‏{‏وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ‏(‏155‏)‏ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏156‏)‏ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏157‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏158‏)‏ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏159‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ‏}‏ أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل إليه ‏{‏سَبْعِينَ رَجُلاً لميقاتنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ روي أنه تعالى أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال‏:‏ ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا فقال‏:‏ إن لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجداً، فسمعوه تعالى يكلم موسى يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه وقالوا‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً‏}‏ فأخذتهم الرجفة أي الصاعقة، أو رجفة الجبل فصعقوا منها‏.‏ ‏{‏قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى‏}‏ تمنى هلاكهم وهلاكه، قبل أن يرى ما رأى أو بسبب آخر، أو عنى به أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالانقاذ منها فإن ترحمت عليهم مرة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك‏.‏ ‏{‏أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا‏}‏ من العناد والتجاسر على طلب الرؤية، وكان ذلك قاله بعضهم‏.‏ وقيل المراد بما فعل السفهاء عبادة العجل، والسبعون اختارهم موسى لميقات التوبة عنها فغشيتهم هيبة قلقوا منها ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم، وأشرفوا على الهلاك فخاف عليهم موسى فبكى ودعا فكشفها الله عنهم‏.‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ‏}‏ ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية، أو أوجدت في العجل خواراً فزاغوا به‏.‏ ‏{‏تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء‏}‏ ضلاله بالتجاوز عن حده أو باتباع المخايل‏.‏ ‏{‏وَتَهْدِى مَن تَشَاء‏}‏ هداه فيقوى بها إيمانه‏.‏ ‏{‏أَنتَ وَلِيُّنَا‏}‏ القائم بأمرنا‏.‏ ‏{‏فاغفر لَنَا‏}‏ بمغفرة ما قارفنا‏.‏ ‏{‏وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين‏}‏ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة‏.‏

‏{‏واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً‏}‏ حسن معيشة وتوفيق طاعة‏.‏ ‏{‏وَفِي الاخرة‏}‏ الجنة‏.‏ ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع‏.‏ وقرئ بالكسر من هاده يهيده إذا أماله، ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك، ويجوز أن يكون المضموم أيضاً مبنياً للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض‏.‏ ‏{‏قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء‏}‏ تعذيبه‏.‏ ‏{‏وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَئ‏}‏ في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره‏.‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا‏}‏ فسأثبتها في الآخرة، أو فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ الكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏وَيُؤْتُونَ الزكواة‏}‏ خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم‏.‏ ‏{‏والذين هُم بئاياتنا يُؤْمِنُونَ‏}‏ فلا يكفرون بشيء منها‏.‏

‏{‏الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى‏}‏ مبتدأ خبره يأمرهم، أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين، أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل، والمراد من آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما سماه رسولاً بالإِضافة إلى الله تعالى ونبياً بالإِضافة إلى العباد‏.‏

‏{‏الأمى‏}‏ الذي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته‏.‏ ‏{‏الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التوراة والإنجيل‏}‏ اسماً وصفة‏.‏ ‏{‏يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات‏}‏ مما حرم عليهم كالشحوم‏.‏ ‏{‏وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث‏}‏ كالدم ولحم الخنزير أو كالربا والرشوة‏.‏ ‏{‏وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في العمد والخطأ، وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة، وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله‏.‏ وقرأ ابن عامر «آصارهم»‏.‏ ‏{‏فالذين ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ‏}‏ وعظموه بالتقوية‏.‏ وقرئ بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير‏.‏ ‏{‏وَنَصَرُوهُ‏}‏ لي‏.‏ ‏{‏واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ‏}‏ أي مع نبوته يعني القرآن، وإنما سماه نوراً لأنه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره، أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها، ويجوز أن يكون معه متعلقاً باتبعوا أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون إشارة إلى اتباع الكتاب والسنة‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ الفائزون بالرحمة الأبدية، ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ‏}‏ الخطاب عام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى كافة الثقلين، وسائر الرسل إلى أقوامهم‏.‏ ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ حال من إليكم‏.‏ ‏{‏الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلق المضاف إليه لأنه كالتقدم عليه، أو مدح منصوب أو مرفوع، أو مبتدأ خبره ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ وهو على الوجوه‏.‏ الأول بيان لما قبله فإن من ملك العالم كان هو الإِله لا غيره وفي‏:‏ ‏{‏يُحْيِي وَيُمِيْتُ‏}‏ مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهية‏.‏ ‏{‏فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِي الأُمِّي الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ‏}‏ ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه‏.‏ وقرئ «وكلمته» على إرادة الجنس أو القرآن، أو عيسى تعريضًا لليهود وتنبيهاً على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه، وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان به والاتباع له‏.‏ ‏{‏واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيهاً على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة‏.‏

‏{‏وَمِن قَوْمِ مُوسَى‏}‏ يعنى من بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق‏}‏ يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق‏.‏ ‏{‏وَبِهِ‏}‏ بالحق‏.‏ ‏{‏يَعْدِلُونَ‏}‏ بينهم في الحكم والمراد بها الثابتون على الإِيمان القائمون بالحق من أهل زمانه، أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيهاً على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر‏.‏ وقيل مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ وقيل قوم وراء الصين رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فآمنوا به‏.‏

‏{‏وقطعناهم‏}‏ وصيرناهم قطعاً متميزاً بعضهم عن بعض‏.‏

‏{‏اثنتى عَشْرَةَ‏}‏ مفعول ثان لقطع فإنه متضمن معنى صير، أو حال وتأنيثه للحمل على الأمة أو القطعة‏.‏ ‏{‏أَسْبَاطًا‏}‏ بدل منه ولذلك جمع، أو تمييز له على أن كل واحد من اثنتي عشرة أسباط فكأنه قيل‏:‏ اثنتي عشرة قبيلة‏.‏ وقرئ بكسر الشين وإسكانها‏.‏ ‏{‏أُمَمًا‏}‏ على الأول بدل بعد بدل، أو نعت أسباط وعلى الثاني بدل من أسباط‏.‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ‏}‏ في التيه‏.‏ ‏{‏أَنِ اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانبجست‏}‏ أي فضرب فانبجست وحذفه للإِيماء على أن موسى صلى الله عليه وسلم لم يتوقف في الامتثال، وأن ضربه لم يكن مؤثراً يتوقف عليه الفعل في ذاته ‏{‏مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ‏}‏ كل سبط‏.‏ ‏{‏مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام‏}‏ ليقيهم حر الشمس‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى كُلُواْ‏}‏ أي وقلنا لهم كلوا‏.‏ ‏{‏مِن طيبات مَا رزقناكم وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ سبق تفسيره في سورة «البقرة»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 161‏]‏

‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية‏}‏ بإضمار اذكروا لقرية بيت المقدس‏.‏ ‏{‏وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّدًا‏}‏ مثل ما في سورة «البقرة» معنى غير أن قوله ‏{‏فَكُلُواْ‏}‏ فيها بالفاء أفاد تسبب سكناهم للأكل منها، ولم يتعرض له ها هنا اكتفاء بذكره ثمة، أو بدلالة الحال عليه وأما تقديم قوله قولوا على وادخلوا فلا أثر له في المعنى لأنه لا يوجب الترتيب وكذا الواو العاطفة بينهما‏.‏ ‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم سَنَزِيدُ المحسنين‏}‏ وعد بالغفران والزيادة عليه بالإثابة، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف للدلالة على أنه تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب «تغفر» بالتاء والبناء للمفعول، و‏{‏خطيئاتكم‏}‏ بالجمع والرفع غير ابن عامر فإنه وحد وقرأ أبو عمرو «خطاياكم»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 162‏]‏

‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ‏}‏ مضى تفسيره فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 163‏]‏

‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

‏{‏وَاسْئَلْهُمْ‏}‏ للتقرير والتقريع بقديم كفرهم وعصيانهم، والإِعلام بما هو من علومهم التي لا تعلم إلا بتعليم أو وحي ليكون لك ذلك معجزة عليهم‏.‏ ‏{‏عَنِ القرية‏}‏ عن خبرها وما وقع بأهلها‏.‏ ‏{‏التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر‏}‏ قريبة منه وهي أيلة قرية بين مدين والطور على شاطئ البحر، وقيل مدين، وقيل طبرية‏.‏ ‏{‏إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت‏}‏ يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت، و‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف ل ‏{‏كَانَتْ‏}‏ أو ‏{‏حَاضِرَةَ‏}‏ أو للمضاف المحذوف أو بدل منه بدل اشتمال‏.‏ ‏{‏إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ‏}‏ ظرف ل ‏{‏يَعْدُونَ‏}‏ أو بدل بعد بدل‏.‏ وقرئ ‏{‏يَعْدُونَ‏}‏ وأصله يعتدون ويعدون من الإِعداد أي يعدون آلات الصيد يوم السبت، وقد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير العبادة‏.‏ ‏{‏يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا‏}‏ يوم تعظيمهم أمر السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة‏.‏ وقيل اسم لليوم والإِضافة لاختصاصهم بإحكام فيه، ويؤيد الأول إن قرئ يوم إسباتهم، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ‏}‏ وقرئ ‏{‏لاَ يَسْبِتُونَ‏}‏ من أسبت و‏{‏لاَ يَسْبِتُونَ‏}‏ على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت، و‏{‏شُرَّعًا‏}‏ حال من الحيتان ومعناه ظاهرة على وجه الماء من شرع علينا إذا دنا وأشرف‏.‏ ‏{‏كذلك نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم‏.‏ وقيل كذلك متصل بما قبله أي لا تأتيهم مثل إتيانهم يوم السبت، والباء متعلق ب ‏{‏يَعْدُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 164‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتِ‏}‏ عطف على ‏{‏إِذْ يَعْدُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏أُمَّةٌ مّنْهُمْ‏}‏ جماعة من أهل القرية يعني صلحاءهم الذين اجتهدوا في موعظتهم حتى أيسوا من اتعاظهم‏.‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ‏}‏ مخترمهم‏.‏ ‏{‏أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا‏}‏ في الآخرة لتماديهم في العصيان، قالوه مبالغة في أن الوعظ لا ينفع فيهم، أو سؤالاً عن علة الوعظ ونفعه وكأنه تقاول بينهم أو قول من ارعوى عن الوعظ لمن لم يرعو منهم، وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم رداً عليهم وتهكماً بهم‏.‏ ‏{‏قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ‏}‏ جواب للسؤال أي موعظتنا إنهاء عذر إلى الله حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر‏.‏ وقرأ حفص ‏{‏مَعْذِرَةً‏}‏ بالنصب على المصدر أو العلة أي اعتذرنا به معذرة ووعظناهم معذرة‏.‏ ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 175‏]‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏165‏)‏ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏166‏)‏ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ‏(‏172‏)‏ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏175‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ‏}‏ تركوا ترك الناسي‏.‏ ‏{‏مَا ذُكّرُواْ بِهِ‏}‏ ما ذكرهم به صلحاؤهم‏.‏ ‏{‏أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ‏}‏ بالاعتداء ومخالفة أمر الله‏.‏ ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ شديد فعيل من بؤس يبؤس بؤساً إذا اشتد‏.‏ وقرأ أبو بكر ‏"‏ بيئس ‏"‏ على فيعل كضيغم، وابن عامر «بئس» بكسر الباء وسكون الهمز على أنه بئس كحذر، كما قرئ به فخفف عينه بنقل حركتها إلى الفاء ككبد في كبد، وقرأ نافع ‏"‏ بيس ‏"‏ على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذئب أو على أنه فعل الذم وصف به فجعل اسماً، وقرئ ‏"‏ بيس ‏"‏ كريس على قلب الهمزة ثم ادغامها و‏"‏ بيس ‏"‏ بالتخفيف كهين وبائس كفاعل‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ بسبب فسقهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ‏}‏ ‏{‏قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً للأولى‏.‏ روي‏:‏ أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يوماً ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين فقالوا‏:‏ إن لهم شأناً فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسباءهم ولكن القردة تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم ثم ماتوا بعد ثلاث‏.‏ وعن مجاهد مسخت قلوبهم لا أبدانهم‏.‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ‏}‏ أي أعلم تفعل من الإيذان بمعناه كالتوعد والإِيعاد، أو عزم لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله فأجرى مجرى فعل القسم ‏{‏كعلم الله‏}‏ و‏{‏شَهِدَ الله‏}‏‏.‏ ولذلك أجيب بجوابه وهو‏:‏ ‏{‏لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ والمعنى وإذ أوجب ربك على نفسه ليسلطن على اليهود‏.‏ ‏{‏مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب‏}‏ كالإِذلال وضرب الجزية، بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بختنصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب‏}‏ عاقبهم في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لمن تاب وآمن‏.‏

‏{‏وقطعناهم فِي الأرض أُمَمًا‏}‏ وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة قط و‏{‏أُمَمًا‏}‏ مفعول ثان أو حال‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك‏}‏ تقديره ومنهم أناس دون ذلك أي منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم‏.‏ ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات‏}‏ بالنعم والنقم‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ينهون فيرجعون عما كانوا عليه‏.‏

‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ من بعد المذكورين‏.‏ ‏{‏خَلْفٌ‏}‏ بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع‏.‏ وقيل جمع وهو شائع في ‏{‏وَرِثُواْ الكتاب‏}‏ التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها‏.‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى‏}‏ حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة وعلى تحريف الكلم، والجملة حال من الواو‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور، أو مصدر يأخذون‏.‏ ‏{‏وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏لَنَا‏}‏ أي‏:‏ يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه‏.‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب‏}‏ أي في الكتاب‏.‏ ‏{‏أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ عطف بيان للميثاق، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب‏.‏ ‏{‏وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‏}‏ عطف على ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ‏}‏ من حيث المعنى فإنه تقرير، أو على ‏{‏وَرِثُواْ‏}‏ وهو اعتراض‏.‏ ‏{‏والدار الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ مما يأخذ هؤلاء‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين‏.‏ ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏ عطف على الذين ‏{‏يَتَّقُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ اعتراض أو مبتدأ خبره‏:‏ ‏{‏إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين‏}‏ على تقدير منهم، أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على أن الإِصلاح كالمانع من التضييع‏.‏ وقرأ أبو بكر ‏{‏يُمَسّكُونَ‏}‏ بالتخفيف وإفراد الإِقامة لإِنافتها على سائر أنواع التمسكات‏.‏

‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ‏}‏ أي قلعناه ورفعناه فوقهم وأصل النتق الجذب‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏}‏ سقيفة وهي ما أظلك‏.‏ ‏{‏وَظَنُّواْ‏}‏ وتيقنوا‏.‏ ‏{‏أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ‏}‏ ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به، وإنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقه وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله الطور فوقهم‏.‏ وقيل لهم إن قبلتم ما فيها وإلا ليقعن عليكم‏.‏ ‏{‏خُذُواْ‏}‏ على إضمار القول أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا‏.‏ ‏{‏مَا ءاتيناكم‏}‏ من الكتاب‏.‏ ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏ بجد وعزم على تحمل مشاقه، وهو حال من الواو‏.‏ ‏{‏واذكروا مَا فِيهِ‏}‏ بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق‏.‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ‏}‏ أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرناً بعد قرن، و‏{‏مِن ظُهُورِهِمْ‏}‏ بدل ‏{‏مِن بَنِى ءادَمَ‏}‏ بدل البعض‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب «ذرياتهم»‏.‏ ‏{‏وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا‏}‏ أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الاقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم‏:‏ ‏{‏قَالُواْ بلى‏}‏ فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه بمنزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة‏}‏ أي كراهة أن تقولوا‏.‏

‏{‏إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين‏}‏ لم ننبه عليه بدليل‏.‏

‏{‏أَوْ تَقُولُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏، وقرأ أبو عمرو كليهما بالياء لأن أول الكلام على الغيبة‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ‏}‏ فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذراً‏.‏ ‏{‏أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون‏}‏ يعني آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك‏.‏ وقيل لما خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرية كالذر وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر رضي الله تعالى عنه، وقد حققت الكلام فيه في شرحي لكتاب «المصابيح»، والمقصود من إيراد هذا الكلام ها هنا الزام اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال‏:‏

‏{‏وكذلك نُفَصّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ أي عن التقليد واتباع الباطل‏.‏

‏{‏واتل عَلَيْهِمْ‏}‏ أي على اليهود‏.‏ ‏{‏نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا‏}‏ هو أحد علماء بني إسرائيل، أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الزمان، ورجا أن يكون هو فلما بعث محمد عليه السلام حسده وكفره به، أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله، ‏{‏فانسلخ مِنْهَا‏}‏ من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها‏.‏ ‏{‏فَأَتْبَعَهُ الشيطان‏}‏ حتى لحقه وقيل استتبعه‏.‏ ‏{‏فَكَانَ مِنَ الغَاوِين‏}‏ فصار من الضالين‏.‏ روي أن قومه سألوه أن يدعو على موسى ومن معه فقال‏:‏ كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 176‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏176‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه‏}‏ إلى منازل الأبرار من العلماء‏.‏ ‏{‏بِهَا‏}‏ بسبب تلك الآيات وملازمتها‏.‏ ‏{‏ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض‏}‏ مال إلى الدنيا أو إلى السفالة‏.‏ ‏{‏واتبع هَوَاهُ‏}‏ في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ثم استدرك عنه بفعل العبد، تنبيهاً على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه أن يقول ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه ‏{‏أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ‏}‏، مبالغة وتنبيهاً على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة‏.‏ ‏{‏فَمَثَلُهُ‏}‏ فصفته التي هي مثل في الخسة‏.‏ ‏{‏كَمَثَلِ الكلب‏}‏ كصفته في أخس أحواله وهو ‏{‏إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث‏}‏ أي يلهث دائماً سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده‏.‏ واللهث إدلاع اللسان من التنفس الشديد والشرطية في موضع الحال والمعنى‏.‏ لاهثاً في الحالتين، والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الذي هو نفي الرفع ووضع المنزلة للمبالغة والبيان‏.‏ وقيل لما دعا على موسى صلى الله عليه وسلم خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب‏.‏ ‏{‏ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا فاقصص القصص‏}‏ القصة المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ تفكراً يؤدي بهم إلى الاتعاظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏177- 177‏]‏

‏{‏سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

‏{‏سَاء مَثَلاً القوم‏}‏ أي مثل القوم، وقرئ ‏{‏سَاء مَثَل القوم‏}‏ على حذف المخصوص بالذم‏.‏ ‏{‏الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم بها‏.‏ ‏{‏وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ‏}‏ إما أن يكون داخلاً في الصلة معطوفاً على كذبوا بمعنى‏:‏ الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم، أو منقطعاً عنها بمعنى‏:‏ وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها، ولذلك قدم المفعول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 178‏]‏

‏{‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏178‏)‏‏}‏

‏{‏مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ تصريح بأن الهدى والضلال من الله، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء والإِفراد في الأول والجمع في الثاني باعتبار اللفظ، والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين، والاقتصار في الإِخبار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 179‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا‏}‏ خلقنا‏.‏ ‏{‏لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس‏}‏ يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى‏.‏ ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا‏}‏ إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا‏}‏ أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ كالأنعام‏}‏ في عدم الفقه والإِبصار للاعتبار والاستماع للتدبر، أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها‏.‏ ‏{‏بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار، وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون‏}‏ الكاملون في الغفلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 180‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ الأسماء الحسنى‏}‏ لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني، والمراد بها الألفاظ وقيل الصفات‏.‏ ‏{‏فادعوه بِهَا‏}‏ فسموه بتلك الأسماء‏.‏ ‏{‏وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أسمائه‏}‏ واتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف فيه، إذ ربما يوهم معنى فاسداً كقولهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه كقولهم‏:‏ ما نعرف إلا رحمان اليمامة، أو وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من «الله»، والعزى من «العزيز» ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال‏:‏ ‏{‏سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ وقرأ حمزة هنا وفي «فصلت» ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ بالفتح يقال‏:‏ لحد وألحد إذا مال عن القصد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 181‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏181‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ ذكر ذلك بعد ما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضاً للجنة هادين بالحق عادلين في الأمر، واستدل به على صحة الإِجماع لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة لقوله عليه الصلاة والسلام «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله» إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة فإنه معلوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏182- 182‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏182‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم‏}‏ سنستدنيهم إلى الهلاك قليلاً قليلاً، وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة‏.‏ ‏{‏مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ما نريد بهم وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم، فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏183- 183‏]‏

‏{‏وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏183‏)‏‏}‏

‏{‏وأملي لهم‏}‏ وأمهلهم عطف على ‏{‏سنستدرجهم‏}‏ ‏{‏إن كيدي متين‏}‏ إن أخذي شديد وإنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان

تفسير الآيات رقم ‏[‏184- 184‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏184‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏مّن جِنَّةٍ‏}‏ من جنون‏.‏ روي‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يحذرهم بأس الله تعالى فقال‏:‏ قائلهم إن صاحبكم لمجنون بات يهوت إلى الصباح، فنزلت‏.‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ موضح انذاره بحيث لا يخفى على ناظر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 185‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏185‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ‏}‏ نظر استدلال‏.‏ ‏{‏فِى مَلَكُوتِ السموات والأرض وَمَا خَلَقَ الله مِن شَئ‏}‏ مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدلهم على كمال قدرة صانعها، ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها، ومتولي أمرها ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه‏.‏ ‏{‏وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ‏}‏ عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى‏:‏ أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم، قبل مغافصة الموت ونزول العذاب‏.‏ ‏{‏فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ‏}‏ أي بعد القرآن‏.‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ إذا لم يؤمنوا به، وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والارشاد إلى النظر‏.‏ وقيل هو متعلق بقوله‏:‏ عسى أن يكون، كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن، وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به وقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏186- 186‏]‏

‏{‏مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

‏{‏مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ‏}‏ كالتقرير والتعليل له‏.‏ ‏{‏وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ‏}‏ بالرفع على الاستئناف، وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء لقوله ‏{‏مَن يُضْلِلِ الله‏}‏، وحمزة والكسائي به وبالجزم عطفاً على محل ‏{‏فَلاَ هَادِيَ لَهُ‏}‏، كأنه قيل‏:‏ لا يهده أحد غيره ‏{‏وَنَذَرُهُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ حال من هم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 187‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة‏}‏ أي عن القيامة، وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها إما لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو لأنها على طولها عند الله كساعة‏.‏ ‏{‏أَيَّانَ مرساها‏}‏ متى إرساؤها أي إثباتها واستقرارها ورسو الشيء ثباته واستقراره، ومنه رسا الجبل وأرسى السفينة، واشتقاق ‏{‏أَيَّانَ‏}‏ من أي لأن معناه أي وقت، وهو من أويت إليه لأن البعض أوى إلى الكل‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي‏}‏ استأثر به لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا‏}‏ لا يظهر أمرها في وقتها‏.‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ‏}‏ والمعنى أن الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها، واللام للتأقيت كاللام في قوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس‏}‏ ‏{‏ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض‏}‏ عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها‏.‏ ‏{‏لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً‏}‏ إلا فجأة على غفلة، كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه‏}‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا‏}‏ عالم بها، فعيل من حفى عن الشيء إذا سأل عنه، فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه، ولذلك عدي بعن‏.‏ وقيل هي صلة ‏{‏يَسْأَلُونَكَ‏}‏‏.‏ وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشاً قالوا له‏:‏ إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة، والمعنى يسألونك عنها كأنك حفي تتحفى بهم فتحضهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها‏.‏ وقيل معناه كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه، من حفى بالشيء إذا فرح أن تكثره لأنه من الغيب الذي استأثر الله بعلمه‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله‏}‏ كرره لتكرير يسألونك لما نيط به من هذه الزيادة وللمبالغة‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن علمها عند الله لم يؤته أحداً من خلقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 193‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏188‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏189‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏190‏)‏ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏191‏)‏ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏192‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ‏(‏193‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا‏}‏ جلب نفع ولا دفع ضر، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏ من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له، ‏{‏وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِىَ السوء‏}‏ ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع واجتناب المضار حتى لا يمسني سوء‏.‏ ‏{‏إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ‏}‏ ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة‏.‏ ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ فإنهم المنتفعون بهما، ويجوز أن يكون متعلقاً بال ‏{‏بَشِيرٍ‏}‏ ومتعلق ال ‏{‏نَّذِيرٍ‏}‏ محذوف‏.‏

‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ هو آدم‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهَا‏}‏ من جسدها من ضلع من أضلاعها، أو من جنسها كقوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ ‏{‏زَوْجَهَا‏}‏ حواء‏.‏ ‏{‏لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا‏}‏ ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير ذهاباً إلى المعنى ليناسب‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا تَغَشَّاهَا‏}‏ أي جامعها‏.‏ ‏{‏حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا‏}‏ خف عليها ولم تلق منه ما تلقى منه الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً وهو النطفة‏.‏ ‏{‏فَمَرَّتْ بِهِ‏}‏ فاستمرت به أي قامت وقعدت، وقرئ ‏{‏فَمَرَّتْ‏}‏ بالتخفيف وفاستمرت به وفمارت من المور وهو المجيء والذهاب، أو من المرية أي فظنت الحمل وارتابت منه‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا أَثْقَلَت‏}‏ صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها‏.‏ وقرئ على البناء للمفعول أي أثقلها حملها‏.‏ ‏{‏دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ ءاتَيْنَا صالحا‏}‏ ولداً سوياً قد صلح بدنه‏.‏ ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ لك على هذه النعمة المجددة‏.‏

‏{‏فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما‏}‏ أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ يعني الأصنام‏.‏ وقيل‏:‏ لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها‏:‏ ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج، فخافت من ذلك وذكرته لآدم فهما منه ثم عاد إليها وقال‏:‏ إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث، وكان اسمه حارثاً بين الملائكة فتقبلت، فلما ولدت سمياه عبد الحرث‏.‏ وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء ويحتمل أن يكون الخطاب في ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ لآل قصي من قريش، فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من جنسه عربية قرشية وطلبا من الله الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم‏:‏ عبد مناف، وعبد شمس، وعبد قصي، وعبد الدار‏.‏ ويكون الضمير في ‏{‏يُشْرِكُونَ‏}‏ لهما ولأعقابهما المقتدين بهما‏.‏ وقرأ نافع وأبو بكر «شركاً» أي شركة بأن أشركا فيه غيره أو ذوي شرك وهم الشركاء، وهم ضمير الأصنام جيء به على تسميتهم إياها آلهة‏.‏

‏{‏وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا‏}‏ أي لعبدتهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ‏}‏ فيدفعون عنها ما يعتريها‏.‏

‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ‏}‏ أي المشركين‏.‏ ‏{‏إِلَى الهدى‏}‏ إلى الإسلام‏.‏ ‏{‏لاَ يَتَّبِعُوكُمْ‏}‏ وقرأ نافع بالتخفيف وفتح الباء، وقيل الخطاب للمشركين وهم ضمير الأصنام أي‏:‏ إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله‏.‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون‏}‏ وإنما لم يقل أم صمتم للمبالغة في عدم إفادة الدعاء من حيث إنه مسوى بالثبات على الصمات، أو لأنهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكأنه قيل‏:‏ سواء عليكم إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏194- 194‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة‏.‏ ‏{‏عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ‏}‏ من حيث إنها مملوكة مسخرة‏.‏ ‏{‏فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أنهم آلهة، ويحتمل أنهم لما نحتوها بصور الأناسي قال لهم‏:‏ إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق بعضكم عبادة بعض، ثم عاد عليه بالنقض فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 195‏]‏

‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ وقرئ ‏{‏إِنَّ الذين‏}‏ بتخفيف ‏{‏أَن‏}‏ ونصب ‏{‏عِبَادِ‏}‏ على أنها نافية عملت عمل ما الحجازية ولم يثبت مثله، و‏{‏يَبْطِشُونَ‏}‏ بالضم ها هنا وفي «القصص» و«الدخان»‏.‏ ‏{‏قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ‏}‏ واستعينوا بهم في عداوتي‏.‏ ‏{‏ثُمَّ كِيدُونِ‏}‏ فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر، وهي أنتم وشركاؤكم‏.‏ ‏{‏فَلاَ تُنظِرُونِ‏}‏ فلا تمهلون فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏196‏]‏

‏{‏إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب‏}‏ القرآن‏.‏ ‏{‏وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين‏}‏ أي ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏197‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏197‏)‏‏}‏

‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ‏}‏ من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏198‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏199‏]‏

‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ‏(‏199‏)‏‏}‏

‏{‏خُذِ العفو‏}‏ أي خذ مَا عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تطلب ما يشق عليهم، من العفو الذي هو ضد الجهد أو ‏{‏خُذِ العفو‏}‏ عن المذنبين أو الفضل وما يسهل من صدقاتهم، وذلك قبل وجوب الزكاة‏.‏ ‏{‏وَأْمُرْ بالعرف‏}‏ المعروف المستحسن من الأفعال‏.‏ ‏{‏وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين‏}‏ فلا تمارهم ولا تكافئهم بمثل أفعالهم، وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

‏{‏وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏200‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ‏}‏ ينخسنك منه نخس أي وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب وفكر، والنزغ والنسغ والنخس الغرز شبه وسوسته إغراء لهم على المعاصي وإزعاجاً بغرز السائق ما يسوقه‏.‏ ‏{‏فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ‏}‏ يسمع استعاذتك‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه، أو ‏{‏سَمِيعُ‏}‏ بأقوال من آذاك عليهم بأفعاله فيجازيه عليها مغنياً إياك عن الانتقام ومشايعة الشيطان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏201‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ‏(‏201‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان‏}‏ لمة منه، وهو اسم فاعل من طاف يطوف كأنها طافت بهم ودارت حولهم فلم تقدر أن تؤثر فيهم، أو من طاف به الخيال يطيف طيفاً‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب «طيف» على أنه مصدر أو تخفيف «طيف» كلين وهين، والمراد بالشيطان الجنس ولذلك جمع ضميره‏.‏ ‏{‏تَذَكَّرُواْ‏}‏ ما أمر الله به ونهى عنه‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ‏}‏ بسبب التذكر مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيتحرزون عنها ولا يتبعونه فيها، والآية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏202‏]‏

‏{‏وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ‏(‏202‏)‏‏}‏

‏{‏وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ‏}‏ أي وإخوان الشياطين الذين لم يتقوا بمدهم الشياطين‏.‏ ‏{‏فِى الغى‏}‏ بالتزيين والحمل عليه، وقرئ ‏{‏يَمُدُّونَهُمْ‏}‏ من أمد ويمادونهم كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء يعينونهم بالاتباع والامتثال‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏ ثم لا يمسكون عن اغوائهم حتى يردوهم، ويجوز أن يكون الضمير للإخوان أي لا يكفون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين، ويجوز أن يراد بال ‏{‏إخوان‏}‏ الشياطين ويرجع الضمير إلى ‏{‏الجاهلين‏}‏ فيكون الخبر جارياً على ما هو له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏203‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ‏}‏ من القرآن أو مما اقترحوه‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها‏}‏ هلا جمعتها تقولاً من نفسك كسائر ما تقرؤه أو هلا طلبتها من الله‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى‏}‏ لست بمختلق للآيات أو لست بمقترح لها‏.‏ ‏{‏هذا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ‏}‏ هذا القرآن بصائر للقلوب بها يبصر الحق ويدرك الصواب‏.‏ ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ سبق تفسيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏204‏]‏

‏{‏وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏204‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قُرِئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإِمام والإِنصات له‏.‏ وظاهر اللفظ يقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقاً، وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة‏.‏ واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏205- 206‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ‏}‏ عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما، أو أمر للمأموم بالقراءة سراً بعد فراغ الإمام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه‏.‏ ‏{‏تَضَرُّعًا وَخِيفَةً‏}‏ متضرعاً وخائفاً‏.‏ ‏{‏وَدُونَ الجهر مِنَ القول‏}‏ ومتكلماً كلاماً فوق السر ودون الجهر فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص‏.‏ ‏{‏بالغدو والأصال‏}‏ بأوقات الغدو والعشيات‏.‏ وقرئ «والايصال» وهو مصدر آصل إذا دخل في الأصيل وهو مطابق للغدو‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين‏}‏ عن ذكر الله‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ‏}‏ يعني ملائكة الملأ الأعلى‏.‏ ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ‏}‏ وينزهونه‏.‏ ‏{‏وَلَهُ يَسْجُدُونَ‏}‏ ويخصونه بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين ولذلك شرع السجود لقراءته‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول‏:‏ يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار ‏"‏ وعنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة ‏"‏‏.‏